التاريخ الإنساني حافل بالحكايات ومنها ما يرتبط بالعنف، وما يقوم على الاغتيال وغيره من الأفكار، ومن ذلك التاريخ الإسلامي الذي شهد صراعات عديدة، منها ما وقع في عهد معاوية بن أبي سفيان.
يقول كتاب أشهر الاغتيالات في الإسلام لـ خالد السعيد تحت عنوان "عبد الرحمن بن خالد بن الوليد":
كان عبد الرحمن بن خالد أموى الهوى انحاز إلى معاوية بن أبي سفيان في صراعه ضد علي بن أبي طالب، فيما انحاز أخوه المهاجر بن خالد إلى علي ضد معاوية.
وبحسب ابن عبد البر في كتابه "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" فقد أدرك عبد الرحمن النبي عليه السلام، واشترك مع أبيه خالد في معركة اليرموك الشهيرة على الرغم من حداثة سنه ونظير انخراطه في الكثير من المعارك، والتصاقه بوالده الموصوف بنبوغه العسكري وفروسيته فقد تعلم الفتى من والده فنون القيادة واكتسب منه الخبرات القتالية.
وفي حرب صفين كان عبد الرحمن أحد قادة الجيش الأموي، ومن المؤيدين لمطالب معاوية في الخلافة . وبعد أن استثبت الأمور لمعاوية أمره على حمص، فسار فيهم سيرة محمودة، فأحبه أهلها وتعلقت قلوبهم به. وكان لعبد الرحمن وقائع مشهودة مع الروم المجاورة تخومهم مدينة حمص.
وقيل إنه لما ولي العباس بن الوليد بعد زمن حمص، قال الأشراف المدينة: يا أهل حمص، ما لكم لا تذكرون أميراً من أمرائكم مثل ما تذكرون عبد الرحمن بن خالد ؟ ، فقال بعضهم: "كان يدني شريفنا ويغفر ذنبنا، ويجلس في أفنيتنا ويمشي في أسواقنا، ويعود مرضانا ويشهد جنائزنا، وينصف مظلومنا .
لم يشفع لعبد الرحمن ما صنعه من أفعال جليلة في خدمة معاوية وآل أمية، فقد قتله الخليفة بواسطة طبيبه السرياني ابن أثال. وهناك ما يشبه الإجماع بين المحدثين والمؤرخين في أن معاوية هو من أمر بالتخلص من عبد الرحمن، ولكن هناك اختلافاً في ما بينهم حول دواعي قتله. فالطبري في "تاريخ الرسل والملوك" وابن الأثير في "الكامل في التاريخ" يذهبان إلى أن معاوية خاف على نفسه من عبد الرحمن بعد أن ذاع صيته، ولمع نجمه، ومالت إليه قلوب أهل الشام فأمر طبيبه ابن أثال أن يحتال في قتله، وضمن له إن هو فعل ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش وأن يوليه جباية خراج حمص، فلما قدم عبد الرحمن حمص منصرفاً من بلاد الروم دس إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه فشربها فمات بحمص، فوفى له معاوية بما ضمن له، وولاه خراج حمص، ووضع عنه خراجه. غير أن معظم المراجع التاريخية ترجح أن السبب في مقتل عبد الرحمن يعود إلى حرص معاوية على إزاحة الأشواك عن طريق ابنه يزيد، وكان عبد الرحمن من الأشخاص القلائل الذين قد يشكل وجودهم مستقبلاً تهديداً المساعي معاوية في استخلاف ابنه من بعده بسبب شعبية عبد الرحمن الجارفة التي حصدها بجهوده، وزادها ما ورثه عن أبيه خالد.
فالأصفهاني في الأغاني وابن عبد البر في الاستيعاب في معرفة الأصحاب وابن الأثير في أسد الغابة والقاضي التنوخي في الفرج بعد الشدة تؤكد روايتهم على وجود صلة مباشرة بين اغتيال عبد الرحمن وتطلعات معاوية لاستخلاف ابنه يزيد.
فقد جاء في تلك المصادر أن معاوية لما أراد أن يظهر العهد ليزيد، قال لأهل الشام: إن أمير المؤمنين قد كبرت سنه ورق جلده، ودق عظمه، واقترب أجله، ويريد أن يستخلف عليكم فمن ترون؟"، فقالوا: "عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. فسكت معاوية وأضمرها، ودس ابن أثال الطبيب إليه، فسقاه سماً فمات.
وبرأيي أن الرواية الأخيرة أقوى حجة من سابقتها على الرغم من اتفاقهما معاً في النتائج واختلافهما في الأسباب.
ومما يرجح ما جاء في الرواية الثانية أن عبد الرحمن قد اغتيل في عام 46هـ، أي بعد عام واحد أو أقل من قيام المغيرة بن شعبة والي الكوفة حينها بإقناع معاوية بتنصيب يزيد خليفة على المسلمين من بعده.
ولما قتل عبد الرحمن بلغ الخبر ابن أخيه خالد بن المهاجر وكان في مكة، وقيل إن الخبر بلغ ابنه خالد بن عبد الرحمن فمر به عروة بن الزبير، فقال له ساخراً ومعرضاً به : يا خالد أتدع ابن أثال ينقي أوصال عمك بالشام وأنت بمكة مسبل إزارك تجره وتخطر فيه متخايلاً؟"، فحمي خالد، ودعا مولى له يدعى نافعاً، فأعلمه الخبر، وقال له: لا بد من قتل ابن أثال". فخرجا حتى قدما دمشق، وكان ابن أثال يمسي عند معاوية، فترصد له خالد ومولاه حتى خرج فسار خالد بمحاذاته ثم وثب عليه فقتله بسيفه. فلما بلغ معاوية الخبر، قال: هذا خالد بن المهاجر، ففتشوا عنه حتى وجدوه، فأتي به فلما وقف أمام معاوية، قال له: لا جزاك الله من زائر خيراً، قتلت طبيبي" ، فقال خالد: قتلت المأمور وبقي الأمر في إشارة إلى معاوية). فقال له معاوية: عليك لعنة الله لو كان تشهد مرة واحد لقتلتك به أي لوكان ابن أثال قد أسلم لقتلك به. ثم إن معاوية أمر بحبسه، وألزم عشيرة خالد من بني مخزوم دية ابن أثال فكانت اثني عشر ألف درهم أدخل بيت المال منها ستة آلاف درهم، وأخذ ستة آلاف درهم.
ولما أطلق خالد من سجنه، عاد إلى المدينة. فلما رجع إليها أتى عروة فسلم عليه، فقال له عروة: "ما فعل ابن أثال؟ ، فقال : قد كفيتك ابن أثال، ولكن ما فعل ابن جرموز (يقصد عمرو بن جرموز الذي قتل الصحابي الكبير الزبير بن العوام)؟"، فأطرق عروة وسكت خجلاً.